فيصل جلول (الخليج الاماراتية)
هل تشكل “إسرائيل” خطراً على لبنان؟ الرد “نظرياً” على السؤال ليس موضع خلاف بين اللبنانيين فهم أجمعوا منذ سنوات على تصنيف الكيان الصهيوني في خانة العدو بالنسبة لبلدهم وتم التعبير عن هذا الاجماع في “اتفاق الطائف” في مادة صريحة تقول أيضاً بالعودة إلى “اتفاق الهدنة” الموقّع بين الدولتين منتصف القرن الماضي بعد انسحاب المحتل من جنوب لبنان. والحق أن هذا الاجماع ليس “حبراً على ورق”، فقد بيّنت وقائع الحرب عام 2006 أن اللبنانيين، على اختلاف انتماءاتهم السياسية، تعاطفوا مع جمهور المقاومة اللبنانية ومع المهجرين الجنوبيين والبقاعيين من قراهم وقدموا لهم المأوى والمساعدات خلال أيام الغزو، ولم تتعرض المقاومة للطعن العسكري من الخلف من أي من الفرقاء الداخليين أثناء الحرب، وذلك رغم تفاوت الحماس والهمة في التعاطف بين فريق وآخر ورغم أن التعبير السياسي لفريق الموالاة حينذاك كان أقرب إلى التذكير بشعارات ما قبل الحرب عن حصر السلاح بالدولة اللبنانية ودمج المقاومة بالجيش اللبناني واعتماد خيار الهدنة وتطبيق القرارت الدولية.. الخ.
الواضح أن فريق الموالاة يعتقد بقوة أن بوسع لبنان حماية أراضيه من الخطر الصهيوني بوسائل سياسية على غرار البعض من الدول، ولكن من دون كامب ديفيد أو وادي عربة أو حتى اوسلو لبناني، وانما فقط عبر “اتفاق الهدنة”. ويزيد هذا الفريق بالقول إن الالتزام بالصراع مع “إسرائيل” يظل قائما من خلال مبادرة السلام العربية، ويتعهد بأن يكون لبنان آخر بلد عربي يوقع سلاماً مع “الإسرائيليين”.
بالمقابل ترى المعارضة عموماً والمقاومة بخاصة أن الصراع المسلح مع الكيان “الإسرائيلي” يجب أن يستمر حتى عودة مزارع شبعا وتحرير الأسرى والمعتقلين وتسليم لبنان خرائط الالغام التي زرعها الجيش “الإسرائيلي” في الأراضي الجنوبية، وأن الخطر الصهيوني لايمكن دفعه باتفاقات قانونية حصراً، يسوق المعارضون الحجج التالية:
أولاً: لم تنسحب “إسرائيل” من الاراضي العربية المحتلة إلا بالقوة ما يعني وجوب الحفاظ على القوة لصيانة الارض. ثانياً: لم يدفع اتفاق الهدنة الاعتداءات “الإسرائيلية” عن لبنان قبل انتشار المقاومة الفلسطينية على أراضيه. فقد استباحت “إسرائيل” الاجواء اللبنانية، قبل العام 1970 وبعده. وحظرت على الجنوبيين التصرف بمياههم ومارست الاغتيالات على الاراضي اللبنانية واعتدت على القرى الامامية وخطفت الرعاة والصيادين. وبادرت في العام 1968 (قبل توقيع اتفاق القاهرة) إلى الاعتداء على مطار بيروت الدولي وفجرت 14 طائرة مدنية قيمتها 330 مليون دولار وهو رقم يعادل ميزانية الدولة اللبنانية حينذاك بحجة أن فلسطينياً مقيماً في لبنان شارك في خطف طائرة “إسرائيلية” في مطار اثينا. ثالثاً: كانت “إسرائيل” تسخر من لبنان وتردد صحفها عبارات تقول إن الجيش “الإسرائيلي” يمكن ان يحتل بيروت بفرقة الموسيقا العسكرية الأمر الذي يعكس احساساً صهيونياً بالسيطرة المطلقة ويجعل من الصعب على بلد صغير كلبنان أن يتصرف بموارده بحرية تامة وان ينتهج السياسة الخارجية التي تتجاوز السقف “الإسرائيلي”. رابعاً: لا يتيح اتفاق الهدنة الوسائل العسكرية الضرورية لحماية الحدود الجنوبية لانه يفرض على الجانب اللبناني الاحتفاظ بقطع محدودة من الاسلحة وعدد محدود من الجنود ومواقع انتشار بعيدة عن الحدود، وإذا ما نظرنا بعمق إلى الوسائل الواردة في الاتفاق نلاحظ انها تكفي فقط للاضطلاع بمهام الشرطة في القرى والبلدات الحدودية. خامساً: يرى الفريق المعارض أن دفع الخطر عن لبنان يكون بالقوة اللبنانية المسلحة أي “باللغة الوحيدة التي تفهمها “إسرائيل”” وليس بشعار “قوة لبنان في ضعفه” الذي كان يرفعه اليمين اللبناني خلال الحرب الاهلية لدفع الأذى “الإسرائيلي” عن هذا البلد.
في نقاش جدي بين الموالاة والمعارضة حول طاولة “الحوار الوطني” قبل الحرب على لبنان عام ،2006 توصل الفريقان إلى حل مبدئي لهذه القضية تحت عنوان “استراتيجية الدفاع الوطني” التي تنص على تحرير ما تبقى من الأرض اللبنانية وعودة الأسرى وتسليم خرائط الالغام ومسائل أخرى مشابهة، ومن ثم اختيار صيغة محلية تسمح بالقاء عبء الدفاع عن الحدود اللبنانية على الجيش والمقاومة بالاندماج أو التنسيق أو كليهما، مع التذكير بأن هذه الصيغة كانت بنداً أساسياً في ميثاق التفاهم بين “حزب الله” “والتيار الوطني الحر” بزعامة الجنرال ميشال عون وبالتالي ليست موضوعا للمناورة السياسية في أجندة المقاومة.
تنطوي هذه الصيغة على حل جذاب لسلاح المقاومة وللرد على الخطر “الإسرائيلي” على لبنان، فهي تفيد استراتيجية المقاومة عبر تقاسم الدفاع عن الحدود مع الجيش اللبناني الشرعي بل تحول هذا الجيش إلى جيش مقاوم في جنوب لبنان بدلاً من دور الشرطي المخصص له في اتفاق الهدنة، ومن جهة ثانية تفيد الشرعية اللبنانية عبر حصر استراتيجية المقاومة بلبنان، وفي نهاية المطاف تجعل هذا البلد شريكاً حقيقياً في الصراع وليس أرضاً مستباحة براً وجواً وبحراً، وفي نهاية المطاف تحدد موقع لبنان بالقياس إلى عدوه الوحيد المعين بالاسم في “ميثاق الطائف” الذي صار دستوراً لبنانياً.
ليس من المستبعد أن تكون “إسرائيل” قد استعجلت الحرب على لبنان لقطع الطريق على هذا التطور الاساسي في الحياة السياسية اللبنانية، ومن غير المستبعد أن تكون الضغوط الامريكية لإطالة أمد الحرب قد تمت في السياق نفسه ضمن رهان على نزع سلاح المقاومة بالقوة وتدمير بناها التحتية وتعيين موقع آخر للبنان مجرد من وسائل الدفاع عن النفس ومناهض للمقاومين والممانعين العرب.
يجدر التذكير، انه في نهاية الحرب المذكورة قالت وزيرة الخارجية “الإسرائيلية” تسيبي ليفني إنه لا قدرة لأي جيش في العالم على نزع سلاح المقاومة. يفصح هذا الاستنتاج عن حقيقة مفيدة للبنانيين قبل غيرهم وهي أن الموقع الممكن الوحيد للبنان في محيطه هو ذلك الذي تحدد بالقياس إلى عدوه الوحيد المعين في اتفاقية الطائف وكل موقع آخر لا يعول عليه.. هذا إذا أراد اللبنانيون إنقاذ بلدهم من الهلاك.