كي لا يصير لبنان غزة !


كي لا يصير لبنان غزة ! بقلم راجح الخوري - النهار

ذات يوم قال يهودي يدعى سيغموند فرويد، وهو أهم علماء النفس على الاطلاق: "إن الضحية تتوق دائما الى لعب دور الجلاد". لكن النازيين الجدد في فلسطين المحتلة تفوقوا على جلاديهم في ايام الرايش الثالث. فمنذ عام 1948 ونشوء اسرائيل حتى اليوم تعرض الفلسطينيون دائما الى ما هو اسوأ من أوشفيتز وباقي المعتقلات التي سيق اليها اليهود على ايدي النازيين. ولقد وصلت العنصرية الاجرامية الى درجة ان نائب وزير الدفاع الاسرائيلي ماتان فيلنائي لم يتردد يوم الجمعة الماضي في تهديد الفلسطينيين بـ"محرقة أشد" و"شواء اكثر وحشية" ولكأن عملية الهولوكوست المفتوحة ضد الشعب الفلسطيني لا تكفي، فكان على أنهر الدم ان تسيل في غزة رداً على صواريخ تقضي الموضوعية بالقول إنها قياسا بآلة التدمير التي استعملها العدو ليست اكثر من العاب اطفال ! ❒ ❒ ❒ لقد قيل الكثير وسيقال الكثير ايضا عن المذبحة في غزة التي تهدد تل ابيب بتكرارها. لكن ما يهمنا، اضافة الى ادانة الهولوكوست الصهيوني طبعا، هو التأمل في ذلك البؤس العميق الضارب حتى الجذور في ذهنية كثيرين من المسؤولين والسياسيين اللبنانيين والعرب، وقد قرأ الناس امس تصريحات وتحليلات لهؤلاء توحي عمليا ان الدماء البريئة التي أريقت في غزة يمكن ان تمحو او تخفف من الاهتمام العربي بالازمة اللبنانية المتفاقمة، في ما يتصل بعمل القمة العربية. لقد كان واضحا ان الازمة اللبنانية تشكل هاجسا عاما لدى الدول العربية، وان افشال المبادرة العربية نتيجة مواقف قوى المعارضة المدعومة من التحالف الايراني – السوري، كما اعلن وزير خارجية مصر احمد ابو الغيط، يمكن ان ينعكس سلبا على هذه القمة التي ستعقد في دمشق في 29 – 30 آذار الجاري. لا بل ان الاتصالات والمواقف والاجتماعات العربية المكثفة كانت تؤكد ان عددا من الدول سيقاطع القمة او يتمثل فيها على مستوى منخفض رداً على استمرار الازمة في لبنان، حيث ترفض دمشق التدخل مع حلفائها في المعارضة لتسهيل الحل. ❒ ❒ ❒ عندما اعلن النائب سعد الحريري في 14 شباط امام الحشود لمناسبة الذكرى الثالثة لاستشهاد والده الرئيس رفيق الحريري ان "لا قمة من دون رئيس لبناني"، لم يكن في الامر اي مبالغة لأن الجو العام في عواصم عربية لها وزنها مثل السعودية ومصر والاردن وعدد من دول الخليج كان يتجه صراحة الى مقاطعة القمة او خفض تمثيله فيها ما لم يتم انتخاب الرئيس التوافقي في لبنان الذي وافقت عليه الاكثرية كما استجابت روح المبادرة العربية. طبعا لم تكن ازمة لبنان لتلغي او لتحجب قضية فلسطين التي تشكل بنداً أبدياً على جدول اعمال القمم العربية كما هو معروف، ولكن بعد المذبحة الاخيرة التي نفذها العدو ضد اهالي غزة، يبدو كأن هناك الآن من يريد استعمال دماء الشهداء الابرياء في فلسطين كساتر يحجب الازمة اللبنانية ويدفعها الى مرتبة ثانية في اهتمامات القمة العربية. إن هذا النوع من التنظير او المراهنات يشكل فضيحة مدوية بحق فلسطين وبحق لبنان ايضا. ولعل المأساة هنا ان الذين يريدون تهميش الازمة اللبنانية امام حرارة الدم الفلسطيني لا يعرفون ضمناً ان ملف ما جرى في غزة هو عنوان فرعي في مسلسل ضياع فلسطين، وان ملف الرئاسة والازمة المستشرية في بيروت هو عنوان تمهيدي في مخطط تضييع لبنان، وان تضييع لبنان عبر الفوضى وتجدد الحروب سيشعل المنطقة كلها. ❒ ❒ ❒ واذا كانت القمم العربية، على امتداد تاريخها، لم تستطع ان توقف المأساة التي يتعرض لها اهلنا في فلسطين المحتلة، فان من الضروري الآن ان يتنبه الجميع الى انه اذا كان ضياع فلسطين كارثة في تاريخ الامة، فإن تضييع لبنان بتركه رهناً للتدخلات والتعطيل هو كارثة ادهى ستجر معها الامة الى اتون الصراعات وسط الظروف الراهنة والتحالفات القائمة والخلافات المتأججة. إن المراهنة على احراج مفترض ستقرع طبوله السياسية والاعلامية ضد الدول التي تربط نجاح القمة بانتخاب رئيس لبناني، وفي مقدمها السعودية ومصر، ليس اكثر من محاولة لاستعمال دماء الشهداء في غزة ساتراً لوضع قد يجعل من لبنان كله غزة اخرى تغرق في دماء قبائلها المجنونة التي تعكف الآن على شحذ السكاكين. ❒ ❒ ❒ إن هذا الكلام لا يشكل مبالغة في الحذر او التطيّر لانه عندما يتحول لبنان منبرا لهجمة سياسية واعلامية شرسة ضد المملكة العربية السعودية وضد الكويت، لمجرد ان الرياض تصر على حل الازمة اللبنانية وانتخاب رئيس توافقي بحيث تتوافر فرص النجاح الموضوعي للقمة العربية، فان ذلك يعني اننا في الطريق الى ان نفقد آخر مكونات الدولة ذات السيادة، وان هناك من يريد ان يعيد لبنان الى ما كان كمسرح لتسوية الحسابات وصندوق لتوجيه الرسائل. وفي هذا السياق كان كلام السفير السعودي د. عبد العزيز خوجه واضحا عندما اكد ورود العشرات من التهديدات التي تلقتها السفارة والمستمرة حتى الآن، والتي لو ارادت المملكة ان تتراجع امامها لكانت سحبت رعاياها منذ زمن بعيد. والمؤسف ان هناك من يريد ان يتوقف امام جوهر الموقف الذي يصر على ان يتمثل لبنان في القمة برئيس، وهو موقف حريص على نجاح القمة واستمرار عمل مؤسسة القمم العربية، بمقدار الحرص طبعا على حل ازمة لبنان ومنع اي انفجار فيه قد يمتد الى المنطقة برمتها كما يقول الامير سعود الفيصل ! عمليا ما يوجَّه الى السعودية ورعاياها في هذا البلد البائس يوجه اكثر ويؤذي اكثر كل اللبنانيين من دون استثناء، حتى اولئك الذين يرفعون عقيرتهم ضدها، ولا داعي الى التذكير بمواقف خادم الحرمين الشريفين وجهود المملكة بالتعاون مع ايران لمنع انزلاق لبنان الى الفتنة المذهبية، اضافة الى سياسة الدعم المستمر التي يلقاها هذا البلد من السعودية. وعندما يقول السفير خوجه: "نحن في كل يوم نصبّح ونمسّي على هجوم عنيف من هنا وهناك واشياء غير مبررة وهناك شحن وشحن وشحن دائم مستمر، ولا اعرف ما هي اسبابه وما هو المقصود وما هي اهدافه (...)، وفيما نحن نحاول لمّ شمل الامة العربية، هناك من يتطاول علينا ويشتمنا ويقول لنا من الافضل ان لا تأتوا الى القمة العربية. وتخرج مقالة هنا ومقالة هناك وهجوم. هناك تحريض ضدنا جميعا، والحادث الذي حصل غير المقصود، اي الرصاص الطائش، قد يتكرر مرات ويسمى برصاص طائش. ليس هناك اي اثبات او دليل على انه متعمد او طائش ولكننا نعتبره طائشا. نريد ان نجنب العوائل السعودية هذا". عندما يقول هذا الكلام ليس من حق اللبنانيين ان يقعوا في الامتعاض او الهلع فحسب، بل من واجبهم ان يتنبهوا الى ان لبنان الذي طالما استعمل ساحة لصراعات الآخرين يراد له الآن ان يصير ساحة ضد الدول الشقيقة والحريصة بما يؤدي الى تعريته وسقوطه في الفوضى والجنون