أزمات صاروخية وتاريخ يعيد نفسه

خيّل الى اللبنانيين في مطلع العقد الأخير من القرن الفائت أن الحرب وضعت أوزارها، وأن الاستقرار والسلام قد عما أرجاء الوطن والسلم الأهلي قد استتب، والمصالحات "التاريخية" قد قطعت الطريق على العبث بالوحدة الوطنية، كما أن الحكومات التي اطلق عليها تسمية "حكومات الوفاق الوطني" قد جمعت الأضداد والمتحاربين، ولم يعد من مجال للصراعات الطائفية والمذهبية والأحقاد والفتن خاصة وأن الخطوات التي توجتها في العام 2005 قد أوحت أن ما بين أخصام الأمس قد انتهى فصولاً، وأن البلد ربما قادم على الاحتفال بانصهار كان حلماً وقد يصبح حقيقةً دامغة. لكن، ما تضمره السياسة أقوى من النوايا السليمة الآيلة الى نبذ الأحقاد والتعالي على الصغائر والمصالح، فما خلفته الجرائم الكبرى والصغرى لم تخمد نارها، بل استعرت من جديد، وها أن قانوني العفو الصادرين في العامين 1991 و2005 باتا حبراً على ورق، وقد أفلت الصراع السياسي من عقاله وتحوَل الى شتائم بالجملة والمفرق، وهو جرف في طريقه كل الحرمات والمقامات والقيم والمسلمات والأعراف والتقاليد والقوانين، فانتفت آداب المخاطبة واندثرت اللياقة والزمالة بين نواب الأمة، فتحوَلت المنابر الى منصات تطلق منها الاتهامات والتخوين والتنكيل والقدح والذم، ولم يسلم أي مرجع فكري أم زمني أم روحي، فيما تحولت معظم الشاشات المحلية الى قواعد للتصعيد وتصحيح الأهداف وتسجيل النقاط واستقطاب المناصرين وغسل الأدمغة ضمن خطط مبرمجة تهدف الى التعبئة السياسية والفكرية والمنهجية خدمةً لسياسات ومصالح معينة. وفي وسط هذا الكابوس الذي يرزح تحته لبنان، تبدو الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية في أحلك ظروفها حيث التضخم العالمي والأجواء المشحونة بين الولايات المتحدة الأميركية وايران على خلفية تخصيب اليورانيوم، ومجازر غزة، والوضع الداخلي المتأزم على وقع "حرب مفتوحة" أطلت برأسها من جحرها، وتهديدات داخلية بالحسم، وصراع متفاقم بين بعض الدول العربية، وتسلَح لأفرقاء في الداخل، وملفات اقتصادية تواجهها السلطة في لبنان قدر الامكان عن طريق الاستيعاب، الخ....... كل محاولات التوحيد سقطت، وسقطت معها الأقنعة، فمن بعد اليوم يصدَق أن حكومات عمر كرامي ورفيق الحريري كان يسودها الاخاء والوئام؟ ومن يصدَق أن العماد عون والدكتور جعجع يوم التقيا في وزارة الدفاع، كما وفي أحد مطاعم العاصمة كانا يكنَان الودَ والوئام لبعضهما البعض، من يصدَق أن وثيقة الطائف كانت خياراً نهائياً للبنانيين، وأن بعض اللبنانيين لا تزال تدغدغهم رغبة العيش ضمن دويلات طائفية تؤمن لهم مصالح وفيرة وملجأ حصيناً؟ من يصدَق أن اقرار النواب لقوانين العفو كان ينم عن مشاعر خالصة من المحبة والتسامح، وقد تحوَل غالبيتهم الى شتَامين لا يقيمون وزناً لحكم الزمالة والروابط التي تجمعهم؟ من يصدَق أن عدو النظام السوري بالأمس قد أصبح حليفاً له فيما حليفه بالأمس قد بات عدواً شرساً له؟ وان كان بين تاريخ اليوم والاستحقاق النيابي العام المقبل الوقت الكافي للعودة الى الضمائر واجراء نقد ذاتي، ومراجعة الحسابات، فان الأجواء الحالية الضاغطة التي قد تطول فصولها سوف تنعكس سلباً على أرض الواقع اذ ان الشرخ يتفاقم بين أبناء الوطن، واحتمالات وقوع مواجهات نسبها كبيرة في ظل التهديدات المتصاعدة واطلاق شعار "الحرب المفتوحة" والانذارات المتقابلة، ناهيك عن احتقان بين السعودية وسوريا قد ينعكس سلباً على لبنان ان انفجر صراعاً بين الدولتين، وان لم ينفجر. أما الذين يبشرون بنهايات سعيدة، وتضاؤل فرص الحرب، فنسألهم: أين قرأتم انفراجاً وسلماً منتظراً: هل في غزة؟ أم في ارسال السفن والبوارج الأميركية العملاقة، أم في تصاريح الرئيس الايراني، أم بين سطور التصاريح والمواقف المسمومة، أم من خلال التهديدات المتبادلة التي تهدَد بعظائم الأمور، أم من خلال توقعات العشرات من المحللين الذين جمعوا معطيات تشير الى أن المنطقة بأسرها تسير نحو أزمة ترجح فيها كفَة الصدام العسكري على الحلول السلمية. هنا نعود بالذاكرة الى العام 1982، الى أزمة الصواريخ السورية (صواريخ سام 6) التي نشرها السوريون في البقاع التي شكلت يومها مشروع حرب بين الثلاثي: اسرائيل – سوريا – أميركا، بعدما عمدت سوريا الى نشر شبكة صواريخ مضادة للطائرات في أرجاء منطقة البقاع اللبنانية هدَدت بها الطيران الاسرائيلي، وهي كانت السبب في ايفاد رحمه الله السفير اللبناني الأصل فيليب حبيب لحل المعضلة الناشئة وانتزاع فتيل التوتر بين جانبي الصراع. ربما اليوم الظروف قد تغيرت، والأشخاص كذلك، وفيليب حبيب ثان لم يأت، بل مبادرة عربية تصطدم بجدار عال من المواقف الجامدة غير المرنة، ونوايا مبيتة من أطراف رسمت خططاً بالغاء الآخر من الخريطة السياسية، وهو ما يعتبر بالمنعطف والمنزلق الخطر ما يستدعي تضافر الجهود لتوفير فرص تسوية مشرفة تنقذ لبنان من هذه المحنة. أمس كانت سوريا في بيروت، وهي لم تبق، بل صواريخ اليوم بيد مقاومة لبنانية، والمواجهة لم تعد سهلة كما كانت عليها في العام 1982، وهي قد خيضت مثيلتها في العام 2006 وشهدت هزيمة برية أثبتت أن الحرب البرية الاسرائيلية في لبنان لم تعد نزهة، واذا كانت صواريخ سام 6 في العام 1982 محددة أهدافها، فان صواريخ رعد وخيبر في العام 2008 حساباتها أصعب بكثير، وهي تتطلب مفاوضات شاقة مع سوريا وايران أم حرباً اقليمية مع الاثنين على أن انحسارها في لبنان بات يجعلها مشروع فاشل بامتياز نسبة لقدرات حزب الله القتالية الممتدة جذورها عديداً وعدة منذ العام 1982 تاريخ نشأة الحزب. من هنا يعتبر المراقبون أن تداخل المعطيات الاقليمية وتشعبها، بدءاً من أحداث غزة مروراً بزيارة نجاد الى العراق مع ما حملته من دلالات، وحادثة مقتل القيادي عماد مغنيه، وصولاً الى الانذارات التي حملتها المدمرة كول، تفتح آفاق واسعة واحتمالات عديدة باتجاه ربيع وصيف سيحملان دون شك تحولات في المنطقة تمتد من نهايات وخواتم سعيدة توافقية مع سوريا وايران ودول الخليج والولايات المتحدة، الى حرب لأيام قد تحمل متغيرات وتوازنات جديدة تخرج لبنان من هذا الجمود السياسي والاقتصادي باتجاه حلول ستأتي على صورة انتصارات ما ستجسدها لصالح هذا أم ذاك من الأطراف.
	بقلم المحامي لوسيان عون