لطالما تغنينا في لبنان (فينيقيا) بأننا أصل الحرف وأهل التجارة، وأول المساهمين في تطوير مفاهيم العصرنة والحداثة قبل مئات السنين. وها نحن اليوم، بعد أن أصبحنا لبنانيين (مستقلين)، نواصل المسيرة، مع فارق بسيط وهو أننا نسير الى... الوراء. نشأنا منذ طفولتنا على أن لبنان هو "قطعة سما" ولا مثيل له على الأرض لجهة غنى الطبيعة واعتدال المناخ، والطبيعة الجغرافية الفريدة. ولكن الغريب أننا تلقنا هذه المبادىء والقيم (الى حد أن البعض لا يزال مصراً على مقولة أن المساحات الخضراء في لبنان هي الأكبر ولعلها الوحدية في العالم)، في خضم الحرب التي قسّمت لبنان دويلات صغيرة، وجذبت اليه جيوش الأشقاء والأصدقاء (بقي الاشقاء بارادتهم حتى غادروا عام 2005، فيما ذهب الأصدقاء وانشغلوا بأمور تعود عليهم بالفائدة). لم نكن نرى من لبنان سوى جزء منه، ومع ذلك، نجح المعلمون والقيّمون علينا تربوياً في ادخال فكرة "لبنان الأخضر الذي لا مثيل له" في اذهاننا. ولكن الرياح لم تجر كما تشتهي سفنهم، فوصلت الينا المعلومات الكافية والوافية بأن لبنان فيه جزء من المساحات الخضراء ولكنها لا تقارن بالمساحات الشاسعة المتواجدة في عدد كبير من الدول الغربية، حتى لمسنا ذلك بأنفسنا من خلال السفر او الانترنت او غيره... ولكن، لا بد من الاشادة بالاصرار الذي تميّز به من نجح في اقناعنا بأن لبنان أخضر ولا مثيل له، فهو اما كان مقتنعاً بما يقوله، واما ان ذكرياته غلبت واقعه واعادته الى الوراء، واما انه كان يحلم بالوصول الى لبنان الذي يريده. وفي مطلق الأحوال، كانت هذه الخطوة جديرة بالاحترام، واليكم السبب. اليوم، بات الجميع يتغنى بأن لبنان ليس أخضراً، وهناك أكثر من مثيل له، وبدل أن يأتي التشبيه لبلدان راقية ومهمة في العالم (على غرار سويسرا التي التصق بها اسم لبنان شرقاً)، نجد أن مثيله هو من طراز :العراق (مع مصائبه وكوارثه الحالية)، او فلسطين (المدمرة والمفجوعة)، او الشيشان (المشهورة بفظاعة الحروب التي شهدتها). وفي وقت كان من الواجب على اللبنانيين أن يظهروا للعالم أن هذه التشبيهات غير صحيحة، وأن الشعب اللبناني هو الذي يعطي أهمية لوطنه، بدا أن العكس تماماً هو ما يشغل بال القسم الأكبر من هذا الشعب. فلم تتم تفويت فرصة واحدة لاظهار مدى التشرذم الذي يعيشه اللبنانيون (بفضل رجال السياسة طبعاً)، ومدى تعطشهم للقيام بأفعال لاثارة نقمة الفئة الأخرى (ومنها التظاهرات "المليونية" من هنا وهناك)، ومدى تأثرهم بزعمائهم المجلين بالابداع في الحفاظ على لبنان ووحدته واستقلاله. وامعاناً منهم في اظهار اصرارهم على السير الى الوراء، ابتدع اللبنانيون "موضة" جديدة هي اطلاق القذائف بالتزامن مع اطلالة الزعيم السياسي على احدى الشاشات. وهذا ان دل على شيء، فعلى المدى الذي بلغته "النكايات" بين جمهور الطرفين، اذ تعادلا في اطلاق العيارات النارية خلال ظهور الزعماء من 8 و 14 آذار، فكان اللجوء الى القذائف ( وللانصاف فقط، اعتمد هذه البدعة قسم من جمهور المعارضة، فيما غاب عنها حتى الآن جمهور الموالاة). ولكننا عدنا الى الايمان بأننا لن نعود الى الوراء أكثر من ذلك، والسبب هو البيان الصادر عن وزارة الداخلية المولجة بالأمن والاستقرار، والتي توجهت بلغة قاسية الى مطلقي العيارات النارية والقذائف الصاروخية في مثل هذه المناسبات، ووصّفت لهم ما يقومون به ومدى خطورته وأهمية ان يستمعوا الى مناداة قياداتهم بعدم اللجوء الى مثل هذه الخطوة!! لم أفهم حتى الساعة المغزى من هذا "الارشاد الأمني" الذي وزعته وزارة الداخلية، واذا كنا نفهم انها عاجزة عن اتخاذ تدابير بحق من يطلق القذائف لعدم الانجرار الى فتنة ما او مواجهات ما، فاننا لم نفهم سبب اصدار مثل هذا "الارشاد" الذي كان من الأفضل الا يصدر، خصوصاً وانه لم يتضمن اي تهديد او وعد بوضع حد لهذه الظاهرة. وهكذا، عدنا مجدداً الى تأكيد واصرار البعض على السير بنا الى الوراء، وبنجاح كبير قد يصل الى ذروته في الأيام او الأسابيع المقبلة. |