رفض عربي – دولي لانقاذ نظام الأسد والمحكمة أدلّتها قويّة

ثلاثة أخطار تهدّد السوريين و"صفقة لوكربي" لن تتكرّر

رفض عربي – دولي لانقاذ نظام الأسد والمحكمة أدلّتها قويّة

من حقيبة "النهار" الديبلوماسية بقلم عبد الكريم أبو النصر (النهار)

لن يتمكن نظام الرئيس بشار الاسد، مهما فعل في لبنان، من ان يعقد مع الدول الكبرى والمؤثرة صفقة مشابهة لصفقة "لوكربي" الليبية تؤمن الحماية لهذا النظام وللمسؤولين السوريين المتهمين بالتورط في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وتجعلهم ينجون من العقاب، بل ان نظام الاسد سيواجه في الاشهر القليلة المقبلة استحقاقات كبرى وتحديات خطرة ابرزها ثلاثة:

أولاً، ستكشف لجنة التحقيق الدولية للعالم ان النظام السوري هو الذي قام بالدور الاساسي، عبر عدد من مسؤوليه الامنيين وبالتعاون مع بعض حلفائه اللبنانيين، في التخطيط والاعداد لجريمة الاغتيال هذه وفي تهيئة كل الاجواء الملائمة لتنفيذها ثم لمحاولة تغطية آثار منفذيها.
ثانياً، سيصدر القاضي الكندي دانيال يبلمار القرار الظني الذي سيوجه، استنادا الى مجموعة كبيرة من الادلة والمعلومات والشهادات، الاتهامات الواضحة الى جميع المتورطين السوريين واللبنانيين في هذه الجريمة الارهابية ويطلب اعتقالهم وجلبهم امام المحكمة الدولية والا فستتم محاكمتهم غيابيا.
ثالثاً، سيتأكد الجميع ان المحكمة الدولية ستبدأ عملها فعلا في الاشهر المقبلة، وانه ليس هناك مجال للتراجع عنها مهما حدث في لبنان من تطورات، وذلك ان المجتمع الدولي مصمم على معاقبة قتلة الحريري ورفاقه وقتلة شخصيات وطنية استقلالية اخرى، وعلى وضع حد لسياسة الاغتيالات حفاظا على الامن والاستقرار والسلام في لبنان وفي المنطقة".

هذا ما اكدته لنا مصادر ديبلوماسية اوروبية وعربية وثيقة الاطلاع في باريس، واوضحت انه "لو لم تكن لجنة التحقيق الدولية تملك الادلة المهمة والمعلومات الكافية لادانة المتورطين في جريمة اغتيال الحريري لما كانت الدول الكبرى وافقت على تشكيل المحكمة الدولية وتمويلها مع دول عدة اخرى".
والسؤال الذي يتردد باستمرار هو: هل سيتم التوصل الى "صفقة دولية ما" مع نظام بشار الاسد حول المحكمة الدولية وجريمة اغتيال الحريري مشابهة لصفقة "لوكربي" الليبية؟

الواقع ان صفقة "لوكربي"، التي شاركت في اتمامها جهات عربية ودولية عدة، تتلخص في ان الدول الكبرى، وعلى رأسها اميركا وبريطانيا، وافقت على "حماية" الزعيم الليبي معمر القذافي ونظامه من اي محاسبة دولية او ملاحقة قضائية في قضية تفجير طائرة الركاب الاميركية فوق لوكربي في اسكوتلندا نهاية 1988 والمتهمة فيها ليبيا مما ادى الى مقتل 270 شخصا، ووافقت ايضا على الغاء العقوبات الدولية المفروضة على هذا البلد منذ عام 1992، وذلك في مقابل مجموعة تنازلات جوهرية واساسية قدمها القذافي الى الاميركيين والبريطانيين والى المجتمع الدولي عموما، وهذه التنازلات الاساسية هي الآتية:
التنازل الاول، ان القذافي وافق على ان تتحمل ليبيا "مسؤولية ما" في تفجير الطائرة الاميركية حين استجاب للوساطات العربية والدولية وقرر عام 1999 ان يسلم الامم المتحدة المواطنين الليبيين المتهمين بتفجير الطائرة تمهيدا لمثولهما امام محكمة اسكوتلندية تم تشكيلها للنظر في هذه القضية. والمتهمان الليبيان هما عبد الباسط المقرحي والامين خليفة فحيمة. وقد بدأت المحكمة الاسكوتلندية اعمالها في هولندا واصدرت في شباط 2001 حكما بالسجن المؤبد على المقرحي الذي دين بالتورط في تفجير الطائرة كما برأت فحيمة من اي تهمة.

التنازل الثاني، ان القذافي رضخ للمطالب الاميركية والبريطانية المدعومة دوليا ووافق عام 2003 على ان يدفع تعويضات لعائلات ضحايا الطائرة الاميركية قيمتها ملياران و300 مليون دولار مما يشكل ايضا اعترافا ضمنيا آخر بالمسؤولية عن تفجير هذه الطائرة.
التنازل الثالث المهم والكبير ان القذافي وافق نهاية 2003 على التخلي عن كل برامجه الخاصة بتطوير اسلحة دمار شامل بما فيها الاسلحة النووية. وقد تخلى فعلا عن هذه البرامج في اشراف اميركي وبريطاني ودولي.
التنازل الرابع، ان القيادة الليبية التزمت رسميا في آب 2003 التخلي عن دعم الارهاب او تنظيمه او تحويله او التحريض عليه، كما انها تعاونت منذ عملية 11 ايلول 2001 مع اميركا وبريطانيا ودول اخرى في مجال مكافحة النشاطات الارهابية في العالم.
ونتيجة لهذه التنازلات والاجراءات تم الغاء العقوبات الدولية والاميركية المفروضة على ليبيا ورفع اسمها من قائمة الدول الراعية للارهاب، وشهدت العلاقات الليبية – الاميركية – الغربية عموما تطبيعا وتحسنا كبيرين. وما حدث، باختصار، هو ان المجتمع الدولي لم يتراجع عن محاسبة ليبيا على ما قام به عدد من مسؤوليها ومواطنيها، بل ان القيادة الليبية هي التي اضطرت الى ان تدفع ثمنا باهظا في مقابل ما فعلته ولقاء رفع العقوبات والعزلة الدولية عنها.

النموذج السوري مختلف عن الليبي

هل تنطبق هذه التجربة الليبية على سوريا؟
وفقا لمصادر ديبلوماسية اوروبية وثيقة الاطلاع فإن "النموذج السوري" مختلف جذريا عن "النموذج الليبي"، بل ان هناك مجموعة عوامل اساسية ومهمة تمنع عقد اي صفقة بين نظام الاسد والدول الكبرى والمؤثرة حول المحكمة الدولية وجريمة اغتيال الحريري، ابرزها الآتية:
أولاً، خلافا لما فعله القذافي حين وافق على تحمل "مسؤولية ما" عن تفجير الطائرة الاميركية، فان القيادة السورية ترفض الاعتراف، وإن ضمنيا، بأي نوع من المسؤولية عن جريمة اغتيال الحريري، بل انها ترفض الاعتراف بالتقصير وبفشلها في تأمين الحماية اللازمة لرئيس الوزراء الراحل ومحاسبة المسؤولين عن هذا "التقصير" على رغم انها كانت هي السلطة الحاكمة فعليا في لبنان آنذاك، وعلى رغم ان القيادة السورية كانت وعدت دولتين كبيرتين بعدم السماح بالتعرض للحريري او بالحاق الاذى به من جانب حلفائها. وفي هذا المجال كشف لنا مسؤول عربي بارز ان الرئيس الاسد وعد زعيمين عربيين كبيرين، مباشرة بعد اغتيال الحريري، باجراء تحقيقات مكثفة مع المسؤولين الامنيين السوريين المعنيين بالملف اللبناني "لمعرفة من قتل الحريري، ولماذا"، لكنه لم يف بوعده ولم يطلع هذين الزعيمين على نتائج اي تحقيقات في هذا الشأن مما زاد من اقتناعهما بتورط السوريين في هذه الجريمة.

ثانياً، لقد تعاون القذافي مع الامم المتحدة ومع المحكمة الخاصة بقضية "لوكربي"، لكن الاسد يرفض التعاون مع المحكمة الدولية المكلفة النظر في جريمة اغتيال الحريري، كما يرفض تسليم اي مسؤول سوري توجه اليه لجنة التحقيق الدولية تهمة التورط في هذه الجريمة الى المحكمة الدولية، بل يريد محاكمة اي متهم محتمل امام المحاكم السورية. وهذا يتناقض جوهريا مع مطالب مجلس الامن وقراراته المختلفة المتعلقة بهذه الجريمة الارهابية، مما يعني انه ليس هناك اي مجال للتساهل في هذه القضية بل ستتم محاكمة المتهمين السوريين غيابيا اذا رفضوا المثول امام المحكمة الدولية، وهذا كله يزيد من حدة التوتر بين نظام الاسد والمجتمع الدولي.
ثالثاً، القذافي هو الذي قدم تنازلات كبرى الى الدول المعنية ودفع ثمنا باهظا لكي تتم تسوية مشكلته ومشكلة نظامه مع المجتمع الدولي، لكن بشار الاسد يفعل عكس ذلك تماما، اذ يرفض ان يقدم اي تنازل او يدفع اي ثمن بل هو الذي يطالب الدول الكبرى والمؤثرة بتقديم تنازلات اساسية له وفي الساحة اللبنانية تحديدا.
فالنظام السوري يريد ان يدفع اللبنانيون انفسهم – وهم ضحايا الاغتيالات والعمليات الارهابية – "ثمن" اعفاء هذا النظام من اي محاسبة امام المحكمة الدولية لتورطه في جريمة اغتيال الحريري. وعلى هذا الاساس يحتجز النظام السوري لبنان رهينة ويريد المساومة عليه وعلى امنه واستقراره ومصيره مع الدول المؤثرة المعنية بقضيته ولذلك يمنع، عبر حلفائه، حل الازمة اللبنانية وانتخاب رئيس جديد توافقي، كما يمنع عودة الحياة الطبيعية السياسية والامنية والاقتصادية الى هذا البلد ما لم تؤمن له الدول الكبرى الحماية من المحاسبة الدولية ومن العقاب، وما لم تمنحه ايضا حق ممارسة هيمنته مجددا على اللبنانيين. وهذه مطالب سورية تعجيزية ليس ممكنا تلبيتها عربيا او دوليا او لبنانيا بالطبع.

من يريد انقاذ الاسد؟

رابعاً، القذافي رضخ، في نهاية الامر، للشرعية الدولية ولمطالبها ولذلك تم التوصل الى "صفقة لوكربي"، اما الاسد فانه يرفض الرضوخ للشرعيتين الدولية والعربية ولمطالبهما التي تشدد على ضرورة تحقيق العدالة ووضع حد لسياسة الاغتيالات ومعاقبة قتلة الحريري ورفاقه، كما تشدد على ضرورة ان تتقبل سوريا لبنان المستقل وتعترف به رسميا وفعليا وتتوقف عن التعاطي معه كأنه جزء من اراضيها.

خامساً، "صفقة لوكربي" تم التوصل اليها نتيجة وساطات وجهود عربية ودولية عدة شارك فيها عدد من القادة الراغبين في تسوية المشكلة الليبية – الدولية ووفقا لصيغة مقبولة من كل الاطراف المعنيين. ولكن في المقابل ليست هناك اي جهود عربية او دولية جدية تبذل للتوصل الى اي نوع من "الصفقة" مع القيادة السورية لثلاثة اسباب هي:

1، ليس هناك اي مجال للتوفيق بين مطالب النظام السوري المتشددة وغير الواقعية ومطالب المجتمع الدولي الشرعية والمدعومة عربيا.
2، ان هناك تصميما عربيا – دوليا على معاقبة المتورطين في جريمة اغتيال الحريري وخصوصا في ضوء ما توصلت اليه لجنة التحقيق الدولية من نتائج وما حصلت عليه من ادلة قوية ومعلومات محددة.

3، ان هناك رفضا عربيا ودوليا واسعا لسياسات نظام الاسد المدمرة حيال لبنان خصوصا والمنطقة عموما، وليست هناك دولة مؤثرة واحدة معنية بالامر تريد "مكافأة" هذا النظام على سياساته هذه من خلال عقد صفقة معه حول جريمة اغتيال الحريري لان ذلك سينعكس سلبا وبشكل خطر على مسار الاوضاع في الساحة اللبنانية وفي المنطقة عموما، كما ان من شأن هذه الصفقة ان تعزز نفوذ المحور السوري – الايراني وحلفائه.
سادساً، لن تقبل اي دولة كبرى او مؤثرة انتهاك قرارات مجلس الامن الدولي وتجاوز التحقيق الدولي او تجاهل نتائجه والتراجع عن قيام المحكمة الدولية بعملها وواجباتها على اكمل وجه ووفقا لاعلى المعايير القانونية من اجل ارضاء نظام الاسد الذي تهدد اعماله وسياساته استقلال لبنان وسيادته وامنه واستقراره ومصالح اللبنانيين العليا، كما تهدد الامن والاستقرار والسلام في المنطقة.

ووفقا لما قاله لنا ديبلوماسي اوروبي مطلع ملخصا الوضع: "ان القذافي تصرف بواقعية ومرونة فأنقذ ليبيا من العزلة ومن العقوبات الدولية. اما الاسد فيتصرف على اساس ان سوريا ليست ليبيا ويتعاطى بكثير من الاستعلاء والمكابرة مع المطالب الدولية والعربية المشروعة المقدمة اليه. اذ انه يريد، في وقت واحد، حماية نظامه من المحكمة الدولية والافلات من اي محاسبة في جريمة اغتيال الحريري و"استعادة" لبنان واخضاعه مجددا لهيمنته وتحسين علاقاته العربية والدولية، وهذه مطالب يستحيل تحقيقها او تأمينها مهما فعل النظام السوري في لبنان، وفي المنطقة. بل ان تمسك نظام الاسد بهذه المطالب التعجيزية ستكون له انعكاسات سلبية وانما خطرة عليه وسيزيد من حدة تأزم علاقاته مع كثير من الدول الكبرى والبارزة والمؤثرة في المنطقة وخارجها".